(بدل النقطة الحمراء التي تظهر على شاشة التلفزيون عند بث فيلم“غير لائق“ أو مهدد للأخلاق العامة: يتضمن هذا النص كلمات المجون! وهي لا تعود لي، إنما مقتطفة من نصوص، أحاول جاهدة أن أثير نقاشاً مع مؤلفه. وقد قدرت أنه بدون „قطع اللحم الحي“ من „أدبه“ لن تتمكنوا من فهم موقفي – ولا أقول تقبله! لذا أرجو معذرتكم مسبقا.)
من هو خير الأفاضل؟
(محاولة نقد غير „اشتراكي شمولي“ لنصوص غير أدبية تماما)
(الإمام علي ابن أبي طالب: (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه
.الكتابة الأدبية، عكس أنواع الرياضة الأولمبية – غير قابلة للقياس بالأمتار أو الكيلوغرامات
لذا من المذهل إلى حد ما السؤال ما هي المقاييس التي جعلت جريدة بريطانية تصف أحد العرب بقولها إنه „قد يكون خير كاتب عربي حي“، إذا كان هذا العربي لا يعود له سطر واحد منشور باللغة العربية من ناشر عربي، ولم تسمع عنه على الإطلاق أكثر من 99،99% من العرب البالغ عددهم أكثر من 500 مليون نسمة ؟! أم أن المقياس الكافي لموضوعية هذه الجريدة هو كونها جريدة بريطانية؟
باختصار، أصبح في متناولنا نحن في بلغاريا مؤخراً „المجموعة الكاملة“ (حتى هذه اللحظة) للمؤلفات التي أنتجها السيد حسن بلاسم، الذي وصفته جديرة (جارديان) البريطانية بأنه „قد يكون خير كاتب عربي حي“
كل ما في الأمر أن صفة التفوق التي أطلقتها (جارديان) لم تأت استنتاجاً من بحث استعرض فيه ناقد أدبي نتاج كاتب وقارنه مع نتاج غيره من الكتاب، وهو ما يمكن توقعه في حالة إطلاق استنتاج جازم من هذا القبيل. إنما جاء كجزء من جملة في مقال بقلم (روبن قصاب) في العدد الصادر بتاريخ 12/06/2010 م، حيث تناول فيه مشروع „بيروت 39″، وهو مشروع أدبي دولي لإصدار مجموعة من مختارات 39 كاتبا عربيا دون العمر 40 عاما ومن ذوي القدرات الواعدة. فكتب مؤلف المقال في سياق استعراضه للأدباء الذين دخلوا هذه النخبة، قائلا: „الواقعية المفرطة المثيرة للرعب لدى أحمد السعداوي ذكرتني بحسن بلاسم الذي ليس ممثلاً هنا، رغم أنه لم يبلغ الأربعين من العمر وقد يكون خير كاتب عربي حي.“
(https://www.theguardian.com/books/2010/jun/12/beirut-new-writing-arab-world)
كان حسن بلاسم، الذي لم يكن له حضور بين الكتاب العرب الـ39 ذوي القدرات الواعدة (وكيف يكون له مكان بينهم إن لم يكن له كتاب صادر بالعربية!؟) كان قد وجد معجبين في ترجمات نصوصه الصادرة باللغة الإنجليزية في بريطانيا، حتى أنه تم إدراج اسمه في القائمة الطويلة لجائزة جريدة (إندبندنت). أما نصف الجملة في جريدة (جارديان) فيبدو أنها كانت معنية بإعطائه دفعاً، إذ بعد عدم تمكنه من الحصول على الجائزة عام 2010، وبعد التكرار مراراً لصفة التفوق التي ابتدعها (روبن قصاب) وبعد صدور مجموعة قصصية ثانية – مترجمة إلى الإنجليزية دون طبعة عربية أيضا، تحت العنوان „المسيح العراقي“، أصبح السيد بلاسم أول عربي حصل على جائزة جريدة (إندبندنت) عام 2014. وسُعد بترجمات قصصه إلى „أكثر من 20 لغة“.
وبما أن السيد بلاسم أجهد نفسه في الرد على كلامي في أمسية تقديم كتابه باللغة البلغارية في قصر الثقافة بصوفيا، قائلاً أنه لم يطلب من الإعلام الغربي أن يصفه بـ“خير كاتب عربي حي“، فلتدعوني أقول كالتالي: المظلوم من بعض وسائل الإعلام الغربية بوصفه خير كاتب عربي حي حسن بلاسم قد يكون فريداً من نوعه – صحيح أنني أعثر على نص مكتوب بهذا القدر من الجهل اللغوي وبهذا القدر من الادعاءات بصفته نصاً أدبياً لأول مرة في تعاملي مع هذه اللغة والذي يعود إلى 41 عاما، فهو قد يكون أمراً فريداً من نوعه؛ وقد تكون قصصه سيناريوهات عبقرية، مع أنه، حسب معلوماتي، لم يعد أمراً حديثاً في أدب السيناريوهات هذا التفرع للقصة عن القصة عن القصة… لكنني لست خبيرة في هذا المجال على الإطلاق فلن أناقشه… وبالطبع لكل واحد اليوم، في عصر حرية التعبير المطلقة، أن يطلق على أي واحد كل أنواع التفوق في أي شيء. وقد تكون نصوص حسن بلاسم أي شيء آخر … إلا أدب عربي. بالطبع، هذا رأي مستشرق من المستشرقين، لا أكثر.
لكنني أود الإجابة على الأسئلة العديدة التي وجهت إليّ، بما معناها هل من الأخلاق أن أقوم بترجمة نص ما، ثم أنقضّ على المؤلف انقضاضاً، فأود الإجابة كالتالي: وهل من الأخلاق أن أعرف أنهم يكذبون عليكم عندما يصرحون بأنهم يقدمون إليكم من „قد يكون خير كاتب عربي حي“، ورغم معرفتي أنه كذب، أن أظل ساكتة عنه وأترككم تصدقون؟
قام بعض الحاضرين بوصف موقفي بأنه „تحليل أدبي اشتراكي شمولي ورقابة أدبية تقيّد حرية عملية الإبداع“، مشددين على الحق التام للمؤلف في تكسير اللغة. لا أتجرأ للجدال مع من يرى أن جهل أبسط القواعد الإملائية والنحوية هو „حرية المؤلف لتكسير اللغة“. لكنني أود الإشارة إلى كون الإملاء والحنو لا يصنفان إلى الاشتراكية وما بعد الاشتراكية على سبيل المثال. وفي رأيي أن كل مؤلف أدب – كاتباً كان أو شاعراً – يقوم بتكسير لغة الروتين بطريقة أو بأخرى. غير أن السيد بلاسم الذي قال لكم بافتخار (وباللغة الإنجليزية!) بأنني أنا أتحدث من منطلق عاشقة اللغة العربية وجمالها، بينما هو لا يهتم بجمال اللغة هذا إنما يهتم بتكسير اللغة، السيد بلاسم عملياً لا يقوم بتكسير لغة الروتين إنما بقوم بتكسير لغة الأم. وهي اللغة التي بدونها ببساطة لا يوجد أدب.
تتجسد مواد البناء الخاصة بعمارة الأدب في الكلمات وفي طريقة ربطها في جملة. أليس كذلك؟ لكن ماذا نقول عن عمارة أدبية مليئة بالكلمات المتشققة من الناحية الإملائية وبالمعاني المنهارة هنا وهناك إثر الربط الخاطئ من الناحية النحوية بشكل يغير المعنى إلى حد تغييبه، أو من جراء الاستبدال المفاجئ لاسم أحد الأبطال باسم آخر، والذي يجاوب المؤلف أنه „خطأ مطبعي“. عفوا، ألا يقتصر الخطأ المطبعي على تغيير حرف وليس كلمة بأكملها؟…
ففي كل المقتبسات ضمن ملاحظاتي هذه سأحتفظ بالكتابة الأصلية كما وردت من السيد بلاسم. وساسمح لنفسي ببعض الملاحظات بخصوص النص المنشور باللغة البلغارية حيث أن هناك بعض الفوارق اللافتة بين ترجمتي أنا، بعد التنقيح اللغوي، والنص المنشور بعد تدخل محرر دار النشر. صحيح أنني لم أطلع على النصوص في صياغتها الأخيرة قبل طباعتها مباشرة حيث كان هناك سبب موضوعي، وهو أنه كان يجب إتمام العمل على إصدار الكتاب خلال فترة وجيزة للغاية وبالطبع بموافقتي الشخصية على ذلك. لكنني في هذه الأثناء، رداً على أسئلة المحرر، حاولت عدة مرات عرض حلول وآراء مبنية على ما كتبه المؤلف، غير أنني تلقيت من المحرر رسالة مفادها: „هذه لن تكون طبعة لغوية ليبحث فيها الناس عن أخطاء الكاتب كي يقوموا بتحليلها، إنما هي قصص تخلق الصور وتسعى إلى إثارة العواطف… وأنا لو اتضح لي أين المشكلة، أقوم بحلها مباشرة، وقد حدث لي سواء مع مؤلفين كنت بصدد ترجمة نصوصهم، أو مع من كنت بصدد تحرير نصوصهم، أن وضعت قوائم بعبارات لامنطقية. إذ كلنا بشر. وقد شكروا لي وتابعنا العمل. إذا كانت هناك إمكانية لتنظيف شيء من خلال حذفه، يتم تنظيفه، وفي نظري أنا، من الطبيعي ألا أعيد علة أبصرتها، بغض النظر عما هو المكتوب في النص الأصلي.“
ومن باب الإيضاح في موضوع الأقوال اللامنطقية الواردة في „مخطوطة“ المؤلف والتي قام المحرر بتنظيفها، سأضيف فقط سؤال المحرر لماذا هناك فرق في المعادلة الرياضية للرادار (من قصة „المسيح العراقي“) بين الطبعة الإنجليزية وترجمتي. وقد كان جوابي الطبيعي أنني قمت بنسخ المعادلة من مخطوطة المؤلف.
!ولما قارنت المعادلة المنشورة في الطبعة البلغارية، اكتشفت أنها مختلفة عن المعادلة في ترجمتي
لا أعرف كيف تبدو المعادلة في الطبعة البريطانية. لكنني لم أعد أتساءل ما هي اللامنطقية التي قام المحرر بتصحيحها في ترجمتي. وأضطر للتساؤل من هو صاحب الترجمة إلى اللغة البلغارية، في ظل الرأي القاطع للمحرر القائل حرفيا: „سآخذ بعض الشيء من الطبعة الانجليزية لأنه يبدو لي أن في النص بعض الفراغات بدون هذه الأشياء. ولا أعتقد أنهم قد ابتدعوها من عندهم، بل أنه من الأرجح أن يكون المؤلف قد أرسل نصوصا أصلية مختلفة، كما قدرنا، وفيها فجوات مختلفة.“
بالأحرى لا أجزم بخصوص اللغة التي تمت منها الترجمة إلى البلغارية. كما أن الترجمة الإنجليزية لا تخلو من أخطاء الترجمة. وبالطبع لا أحد محصن بضمانات ضد أخطاء من هذا القبيل، بمن فيهم أنا. لكنني أتحمل المسؤولية عن كوني ترجمت من النص الأصلي الذي استلمته من المؤلف شخصياً، وهذا النص الأصلي هو موضع ملاحظاتي. ومن واجبي أن أنطق بهذه الملاحظات، خاصة أنه يبدو لي أننا هنا نفتخر بأننا الأوروبيين قمنا بإصدار كتابات حسن بلاسم نكاية بالناشرين العرب الرجعيين المعاديين للديمقراطية الذين مارسوا بحقه الرقابة، لكننا، كما يظهر، قمنا بفرض الرقابة المشددة على نصوصه بأنفسنا. فقد أبقينا ما يصب في أطروحاتنا من كلامه، لكننا قمنا بتخفيف كل ما قد يتجاوز قدرات جمهورنا على التحمل، على سبيل المثال الكلمات المبتذلة. بدليل أن الناشر البلغاري للسيد بلاسم، أصر شخصياً أمام جمهور الأمسية في صوفيا على أن يقرأ بصوته القصة بعنوان (ذئب)، ثم مارس بحقها الرقابة حيث تجاوز جملة كاملة منشورة في الكتاب الذي أصدره!
أسمح لنفسي بالاقتباس: “ تخيّلْ : فتاتين من شهود يهوه ، عاريتين ، في سريري. واحدة تمص زبي والأخرى تعطي بظرها للساني وهي تقرأ مقطعا من الكتاب المقدس. كنا نتحدث عن مواضيع كثيرة.“ هذا النص سمعه الجمهور البلغاري، منظفاً من الجملة التي فيها المصطلحات التشريحية. وصحيح أنه يتوجب علينا مراعاة الجمهور. لكن إذا كنا متضايقين بأنفسنا من إجبار الجمهور البلغاري لسماع هذه الكلمات، لماذا نقنعه من خلال عدة عشرات من المقابلات على امتداد ثلاثة أيام، بأن هذا هو „خير كاتب عربي حي“، وبنفس العبارة تم افتتاح أمسية صوفيا.
وبما أنني بدأت بالحديث عن القصة بالعنوان (ذئب) وعن المفردات المبتذلة ومعالجتها „على الطريقة الأوروبية“، فلأستكمل الحديث عنها: في النص الإلكتروني الذي وصلني من المؤلف تشمل هذه القصة 5 صفحات. وعلى هذه الصفحات الخمس هناك عبارة مكررة 9 (تسع) مرات بمعنى عبارة „يعني“ الطفيلية، أي دون أي ارتباط بسياق النص ودون أي أهمية للسرد. والعبارة هي „كسها وكس أمها“. أما معالجتها على يد المحرر باللغة البلغارية فتعادل عبارة „Fuck“ بالإنجليزية. وفي الوقت نفسه فقد استُخدم في تصميم غلاف الطبعة البلغارية مقتطف مما كتبته مجلة Skinny Magazin، قائلة إن „بلاسم لا يخشى الدم والجنس والتدنيس والبؤس، غير أنه لا يستخدمها كمؤثرات رخيصة.“ سأدعكم تقدرون ما إذا كان استخدام العبارة المذكورة وبهذه الكثرة مجرد استخدام لغرض في نفسه، أي كمؤثر رخيص. إلا أنني أتعامل مع عرب منذ أكثر من 40 عاماً ولعلي على بعض الحق في التخيل أنني أعرف طريقة الكلام العربي إلى حد ما. أما هذه العبارة فعثرت عليها لأول مرة في قصة السيد بلاسم ، خاصة أنها وردت متكررة بهذه الكثافة – 9 مرات على 5 صفحات دون أي ربط بسياق النص. صحيح أن العرب يستخدمون الشتائم في حياتهم اليومية، وبالتالي لم لا يستخدمها الكتّاب في أدبهم، غير أن نسبة تكرار تسميات أفعال الجنس والأعضاء التناسلية بعيدة كل البعد عن مفردة „Fuck“ الإنجليزية التي دخلت الكلام اليومي حتى للمراهقين البلغار متحولة إلى عادية تماماً. ومن هنا، هل قام المترجم إلى الإنجليزية ومحرره بفرض الرقابة على كلام المؤلف العراقي (علماً أن العبارة الإنجليزية تم استخدامها نموذجاً من جانب المحرر البلغاري كذلك) أم أن المترجم والمحرر الإنجليزيين غير مطلعين على طريقة الكلام العربي إلى الدرجة الكافية؟ وأنا شخصياً أشك في كون صاحب هذه العبارة التي أجدها غير معتادة، يستخدمها في أحاديثه مع أصدقائه العرب، أما مع أهله ففي رأيي من المستبعد أن يكون قد نطق بها مرة! وتفسيري الخاص هو أن المؤلف يتوهم أنها لفتة لقرائه الغربيين يهدف بها الاقتراب منهم وتشجيع اهتمامهم به.
أضف إلى كل ذلك أن في الأدب العربي الكلاسيكي هناك ما يسمى بأدب النقائض، الذي يتجسد في تبادل الشتائم بين الشعراء بشكل مبارزة كلامية حقيقية، وهناك كذلك ما يسمى بشعر المجون. لكن كل كلمة واردة في كلا اللونين الأدبيين تخضع تماماً للقواعد الصارمة لفن الكلام العربي الراقي، لا بل أنهما مفعمان بنماذج من فن التلاعب بالمفردات والتي تتطلب معرفة دقائق القواعد في النحو من أجل فهم بيت الشعر والاستمتاع به. وبالمقابل يصرح السيد بلاسم بأنه غير مهتم بجمال اللغة العربية إنما يهتم بتكسيرها. أما الجمهور البلغاري فيصفق له غير مكترث بأن الترجمة لا يمكن أن تحتفظ بالأخطاء النحوية التي ارتكبها المؤلف. لا بل أن الجمهور البلغاري يرفض الإدراك أنه بنفسه لو عثر على نص بلغاري بنفس القدر من الابتذال والأخطاء اللغوية، سيعتبره فضيحة. غير أنه يفضل أن يوجه السؤال إلى المترجم هل من الأخلاق التعبير عن رأيه في النص الذي قام بترجمته. ورأيي أنه من غير الأخلاق السكوت. شانه شأن السكون من جانب ما لا يقل عن عشرين من الزملاء الذين ترجموه إلى لغاتهم قبلي وانضموا بصمت إلى تصفيق الجمهور.
لماذا لم أرفض ترجمة هذه النصوص؟ أولاً أنني لم أعرف ماهيتها مسبقاً. فمن عادتي أن أدع النصوص التي أترجمها تفاجئني بتطورها، أي أن أكتشفها بالتدريج والبطء… ومن ثم فقد فكرت كثيراً في إمكانية رفض استكمال المشروع – لكنه من غير طبيعتي أن أترك مهمة قد تكلفت بها. بل حتى لو أنني رفضت، كانت ترجمة النصوص ستستكمل، ربما من اللغة الإنجليزية، وكانت ستصدر بالبلغارية. غير أنني لو رفضت ترجمتها لم أكن لأحصل على أصلها بالعربية. وحتى لو ناقشت النص المترجم، لم تكن الصورة لتكتمل. لكن بعد أن مر“فن الكلام“ هذا من بين يدي، لم يعد في مقدوري السكوت عنه، على الأقل لسبب „اكتشافي“ الأول في مجال اللغة العربية منذ أن كنت في الصف الأول الجامعي، ألا وهو أن الكلمة العربية للصداقة مشتقة من „الصدق“. ففي رأيي من النفاق أن أسكت وأترككم تصفقون. مع أنه من السهل جدا لو فعلت!
تكشف نصوص السيد بلاسم الأصلية عن عدم الاحترام، وهو في المكان الأول عدم احترام المؤلف لنفسه: إذ هل هناك من تفسير آخر لحالات الاستبدال الغريب لاسم بطل من أبطاله باسم آخر والذي يسميه المؤلف بخطأ مطبعي، غير أنه مجرد غياب الانتباه، أو عدم العودة إلى قراءة النص بعد إتمامه، وكلاهما غير قابل للتفسير. كيف لم ينتبه لكون أم حنان قد أصبحت أم إيمان في السطر التالي، وأن (ساهرة) هي الأخت العزيزة لبطل القصة تارة والأخت الكبيرة لأقرب أصدقاء نفس هذا البطل تارة أخرى. وأليس تعبيراً عن عدم احترام المؤلف لنفسه إذا كان قد وُجه إليه سؤال، قبل شهر من إتمام مشروع الترجمة إلى البلغارية، حول ما إذا كان قصدا أم مصادفة غياب قصتين من القصص المنشورة باللغة الإنجليزية، عن „المخطوطة“ التي أرسلها للترجمة إلى البلغارية؟ فقد أبدى استغرابا: كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وهما أهم قصتين في المجموعة!… وأرسلها في ملف إضافي…
أعود هنا إلى أحدى „أهم قصتين في المجموعة“، وهي القصة بالعنوان „ذئب“ والتي سبق التطرق إليها. شعرت، أثناء عملي على ترجمة المجموعة الأولى (مجنون ساحة الحرية) باشمئزاز من الابتذال في نص من النصوص وطلبت من المحرر حذف القصة من المجموعة باللغة البلغارية، خاصة أنه كانت هناك حجة إضافية هي أن هذه القصة لم تكن موجودة في الكتاب الصادر بالإنجليزية. ثم فكرت „بضمير غير مرتاح“ أن هناك قصة واحدة من القصص التي كتبها حسن بلاسم حتى الآن، غير مترجمة إلى اللغة البلغارية. إلا أنني مؤخراً فتحت ملف القصة المحذوفة، وقد كانت آنذاك تحمل عنوان „عادة التعري السيئة“. واكتشفت أن النص نفسه الذي تم ضمه إلى المجموعة الثانية تحت العنوان „ذئب“. ووجدت أن المشهد المبتذل الذي كان قد جعلني أطلب عدم إدراج القصة في المجموعة الأولى بالبلغارية، هو المشهد الذي يضم شاهدتي يهوه… وبذلك يكون التدخل الظالم من جانب المترجمة التي لعبت دور الرقابة بخصوص المجموعة الأولى، قد تم تعديله ليتمتع هواة السيد بلاسم في بلغاريا فعلاً بكامل مؤلفاته إلى الآن.
ومما أعتبره عدم احترام بامتياز، ضمن نص يدعي بكونه نصاً أدبياً، بل وحامل جوائز لترجمته إلى لغة أجنبية، حضور ما يدل على عدم معرفة قواعد اللغة العربية وما يحاول المؤلف عرضه وتمريره، بطريقته الهجومية، بكونه „تكسير اللغة“. على سبيل المثال لا الحصر، اضطررت أن أوجه للمؤلف سؤالاً حول جملة من قصته (كلمات متقاطعة) وقد نسخت له الجملة من نصه: (اخبرك في تلك الليلة بأن( المركب السكران) كانت قريبته ، لم اخف عليك هذا الامر طوال سنوات ؟!) وكان سؤالي: „من هو الـ(أنا) فيها، أم أن هناك خطأ مطبعي“، فوصلني الرد التالي: „هذه القصة صعبة قليلا ويجب الانتباه الى الشخصيات. لا اعتقد يوجد خطأ“. فلم أقتنع وعدت أسأل: „نعم، „هو أخبرك“ واضح تماماً، وغير الواضح هو ما يأتي مباشرة بعده: (لم اخف عليك هذا الامر طوال سنوات ؟!) لم أخف – أنا؟ من أين جاء هذا الأنا ومن هو الأنا؟“ فجاء الرد: (لايوجد انا. هو يستمر في سؤال صديق مروان. يقول له بمعنى اخر ويسال : لماذا اخفى عليك الامر طوال سنوات.اخف الفعل اخفى.هو خطأ مطبعي.). المعذرة، هذا الخطأ كذلك ليس مطبعياً، إنما خطأ نحوي – حيث أن (لِمَ) بمعنى لماذا، لا تجزم الفعل، لكنها متكررة عند السيد بلاسم كأداة جزم الأفعال في عدة من قصصه في هذه المجموعة. وأليس في ذلك دليل على عدم احترام المؤلف لكل من المترجم والمحرر وكذلك قارئ الترجمة التي لا يمكن إلا تعديلها أصلا (إذ هذه لم تعد ترجمة، ولا تحرير!) واللافت أن الأخطاء المطبعية والنحوية ظلت موجودة فيما نشره المؤلف إلكترونياً من قصصه للقراءة الحرة، احتجاجاً على رفض عشرين ناشراً عربياً لإصدار كتابه باللغة العربية“، على حد قوله. لكنه لم يجهد نفسه لتصحيح الأخطاء المطبعية على الأقل، تعبيراً عن نوع من الاحترام لقرائه العرب. (مجموعة القصص تحت عنوان „مجنون ساحة الحرية“ تحتوي كذلك على بعض قصص المجموعة الثانية „المسيح العراقي“، وتعطي الفكرة عن كتابة السيد بلاسم وتصوره لتكسير اللغة.)
http://www.adabfan.com/magazine/4243
وهناك سبب آخر يجعلني غير قادرة على السكوت عن المرارة التي يثيرها لديّ مثل هذا الموقف من اللغة التي أعمل بها منذ أربعة عقود، وهذا السبب هو أن هذه المرارة هي ذاتها التي تتولد لدي مما ألاحظه من تطورات تتطاول على لغتي البلغارية كذلك. أليست اللغة، سواء البلغارية أو العربية أو أية كانت، أساس ظاهرة النهضة التي لا بد لكل شعب من الشعوب اجتيازها (إذا كانت لديه إرادة التكوين والتحول إلى شعب، بالطبع). فكيف لنا أن نتقبل بهذه السهولة إطلاق صفة „خير كاتب عربي حي“ على ذاك السيد الذي يضفي على جهله اللغوي صبغة التمرد البطولي على قواعد اللغة؟ لماذا نغمض عيوننا في وجه ظاهرة قد تبلورت وفرضت نفسها، وهي التصدي لنهضة الأمم من خلال التشجيع المتعمد لجهلها، انطلاقاً من جهل لغة الأم أولاً؟
وهل أنتم، أصدقائي الأعزاء من هواة السيد بلاسم، توافقون على أن الأدب يسير في طريقه إلى الزوال مستقبلاً لتحل محله ألعاب الفيديو الروائية على سبيل المثال، إذ هي الدعوة التي يروج لها السيد بلاسم: „مستقبل الادب هو العاب فيديو ذكية. لا يمكنك اجبار الاجيال الجديدة على القراءة، لكن يمكنك ان تدخلهم في عالم رواية عميقة ومتشعبة ـ رواية لعبة فيديو. كتاب المستقبل هم مصممو العاب فيديو.“ فهل توافقون على حل ألعاب الفيديو محل الأدب العالمي؟ ومن ناحية أخرى، صحيح أن ألعاب الفيديو تغني عن حفظ قواعد النحو عن غيب، أي تغني عن معرفة لغة الأم. ولعل معرفة اللغة الإنجليزية تكفي في مستوى تسميات خيارات الكمبيوتر لا غير.
أليس الجهل اللغوي أحد الأسلحة „التقليدية“ البسيطة للاستشراق المعاصر، وبالأخص „كلام الاستعمار الجديد“ الذي تحدث عنه الكاتب العراقي سنان أنطون: „هذا الفهم الأمريكي السطحي للعراق، سواء بخصوص الدستور أم ترتيب المعارض، أن هذه الأشياء لم تكون موجودة وأن البيض أو أي واحد ذا نمط تفكير البيض سيأتي بالثقافة والحضارة إلى العراق. كم هو مسيء لمئات الفنانين والنقاد، وللعراقيين، هو كلام الاستعمار الجديد.“
والاستشراق، في سبيل مواصلة تمرير أطروحته بوجود حتى بعض المحليين الذين يدركون „هذا الواقع غير الحضاري الذي يحتاج إلى المجيء بالحضارة إليه من الخارج“، ألا يعول على مؤلفين من نمط حسن بلاسم وعلى نصوص من منط قصصه؟ فقد تضمنت قصته بعنوان „لا تقتلني رجاء… هذه شجرتي“ وصفاً موجزاً للواقع الذي هرب منه العراقي سائق الباص في إحدى المدن الغربية، وهو „ابن الحي الذي كانت حبوب الكبسلة والشرطة الوحشية هم من يديرانه.“ ويضيف السيد بلاسم بعض التفاصيل حول الواقع في وطنه العراق في قصة „بوصلة وقتلة“، حيث الأخ الكبير أبو حميد، وهو بمثابة عراب المافيا المحلي في حي من أحياء مدينة عراقية، يعلم أخاه الصغير كيفية الحياة الناجحة: „… واذا واحد كلك مثلا خاف الله ، لو حرام .. حط رجلك بطيزه .. لأن هذا الله مال مضاريط .. مالهم مو مالك .. انت الله … يومك هذا … وماكو الله من دون عبيد وبكائين يموتون من الجوع ويتصبرون بإسمه … لازم تتعلم انت بهذي الدينا تصير الله .. الناس تلحس طيزك وانت تخري بحلوكهم …“
ليس في هذه القصة بطل أكثر إيجابية من (أبو حميد)؛ وتتفرع داخل القصة روايات أخرى عن لاجئين، وكلها تندرج تماماً في الموضوع الحساس بالنسبة لنا في أوروبا حالياً، وهو من هم اللاجئون وما هي نواياهم بحقنا، لتصل القصة إلى الجملة المحورية التالية: „قبل سنوات غامرت بالهرب الى ايران. كنت أفكر في العبور من هناك الى تركيا والخلاص من بلد المناويك هذا. عشت في بيت قذر في شمال أيران. كان يجمعون فيه القادمين من باكستان وافغانستان والعراق. بلاد الله الكواد الشاسعة.“
ما الذي تحتاجه أوروبا المتحضرة الطيبة القديمة إلا التأكيد على لسان أحد أبناء „ذاك الواقع“، على أننا لسنا بصدد لاجئين إنما بصدد مغامرين ساعين إلى الحياة الهادئة في أحسن الحالات، لكن من يدري، فمن غير المستبعد أن يحاولوا ممارسة بعض عاداتهم غير الحضارية بحق مواطني أوروبا المتحضرين. ويأتي كل ذلك بزخارف غزيرة من „بلاع العير“ وغيرها من اللآلئ اللفظية من هذا القبيل (والتي تم حجبها، والحمد لله، عن القارئ البلغاري من خلال تحويلها إلى بعض العبارات المتلألئة الخفيفة من فولكلور المراهقين البلغار. وإلا فالطبعة البلغارية لقصص السيد بلاسم كانت ستثير الامتعاض ذاته الذي تثيره أحياناً كلمات بعض أغاني „هز الوز“ البلغارية المعاصرة… إلا أنها لا تنال جائزة جريدة „اندبندنت“.)
وهنا بودي أن أطرح السؤال، إذا كان „أدب“ السيد حسن بلاسم قد نال جائزة جريدة „اندبندنت“ للأدب المستقل، فمن وما الذي يستقل عنه هذا الأدب؟ هل عن شيء آخر غير ما كتبت عنه الأديبة الفلسطينية سهير مقدادي: “ شرط الأدب ليس الارتقاء بذائقتنا الأدبية فقط، بل الارتقاء بذائقتنا الإنسانية.“ وهل عن شيء آخر غير الأخلاق التي ذكرها السيد بلاسم أمام جمهوره في قصر الثقافة بصوفيا لما قال إن „الأمهات العراقيات شأنهن شأن كل أمهات العالم يعلّمن أولادهن الخير…“ وإلا فكيف ستسمح له هذه الأخلاق المستمدة من كلمات أمه أن يسوّد وجه أهله في سبيل إرضاء الغرب والحصول على المدح منه؟… المدح لكونه قدم له بعض الخدمات…